الأحد، 17 مارس 2024

من سورة التوبة

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١١٢
من سورة التوبة 
﴿ٱلتَّـٰۤىِٕبُونَ ٱلۡعَـٰبِدُونَ ٱلۡحَـٰمِدُونَ ٱلسَّـٰۤىِٕحُونَ ٱلرَّ ٰ⁠كِعُونَ ٱلسَّـٰجِدُونَ ٱلۡـَٔامِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡحَـٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ [التوبة ١١٢]

هَذَا نعتُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اشْتَرَى اللَّهُ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ وَالْخِلَالِ الْجَلِيلَةِ: ﴿التَّائِبُونَ﴾ مِنَ الذُّنُوبِ كُلِّهَا، التَّارِكُونَ لِلْفَوَاحِشِ، ﴿الْعَابِدُونَ﴾ أَيْ: الْقَائِمُونَ بِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ مُحَافِظِينَ عَلَيْهَا، وَهِيَ الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ فَمِنْ أخَصّ الْأَقْوَالِ الْحَمْدُ(١) ؛ فَلِهَذَا قَالَ: ﴿الْحَامِدُونَ﴾ وَمِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصيامُ، وَهُوَ تَرْكُ الملاذِّ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْجِمَاعِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالسِّيَاحَةِ هَاهُنَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿السَّائِحُونَ﴾ كَمَا وَصَفَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ(٢) ﷺ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿سَائِحَاتٍ﴾ [التَّحْرِيمِ: ٥] أَيْ: صَائِمَاتٍ، وَكَذَا الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، وَهُمَا عِبَارَةٌ عَنِ الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ﴾ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَنْفَعُونَ خَلْقَ اللَّهِ، وَيُرْشِدُونَهُمْ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ بِأَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، مَعَ الْعِلْمِ بِمَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ وَيَجِبُ تركُه، وَهُوَ حِفْظُ حُدُودِ اللَّهِ فِي تَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ، عِلْمًا وَعَمَلًا فَقَامُوا بِعِبَادَةِ الْحَقِّ وَنُصْحِ الْخُلُقِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَشْمَلُ هَذَا كُلَّهُ، وَالسَّعَادَةُ كُلُّ السَّعَادَةِ لِمَنِ اتَّصَفَ بِهِ.[بَيَانُ(٣) أَنَّ الْمُرَادَ بِالسِّيَاحَةِ الصِّيَامُ] :(٤)قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: ﴿السَّائِحُونَ﴾ الصَّائِمُونَ. وَكَذَا رُوي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلَّ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ السِّيَاحَةَ، هُمُ الصَّائِمُونَ. وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ، رَحِمَهُ اللَّهُ.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: سياحةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الصِّيَامُ.(٥)وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَير، وَعَطَاءٌ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ مُزاحم، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيينة وَغَيْرُهُمْ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّائِحِينَ: الصَّائِمُونَ.وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: ﴿السَّائِحُونَ﴾ الصَّائِمُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ.وَقَالَ أَبُو(٦) عَمْرٍو العَبْدي: ﴿السَّائِحُونَ﴾ الَّذِينَ يُدِيمُونَ الصِّيَامَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ نَحْوَ هَذَا، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن بَزِيع، حَدَّثَنَا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "السَّائِحُونَ هُمُ الصَّائِمُونَ"(٧)[ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ بُنْدَار، عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: ﴿السَّائِحُونَ﴾ الصَّائِمُونَ] .(٨)وَهَذَا الْمَوْقُوفُ أَصَحُّ.وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عُبَيد بْنِ عُمَير قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ السَّائِحِينَ فَقَالَ: "هُمُ الصَّائِمُونَ".(٩)وَهَذَا مُرْسَلٌ جَيِّدٌ.فَهَذِهِ(١٠) أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَأَشْهَرُهَا، وَجَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السِّيَاحَةَ الْجِهَادُ، وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "سِيَاحَةُ(١١) أُمَّتَيِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ".(١٢)وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ لَهِيعة: أَخْبَرَنِي عُمارة بْنُ غَزِيَّة: أَنَّ السِّيَاحَةَ ذُكِرَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَبْدَلَنَا اللَّهُ بِذَلِكَ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالتَّكْبِيرَ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ".(١٣)وَعَنْ عِكْرِمة أَنَّهُ قَالَ: هُمْ طَلَبَةُ الْعِلْمِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هُمُ الْمُهَاجِرُونَ. رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ السِّيَاحَةِ مَا قَدْ يَفْهَمُهُ بَعْضُ مَنْ يَتَعَبَّدُ بِمُجَرَّدِ السِّيَاحَةِ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّفَرُّدِ فِي شَوَاهِقِ الْجِبَالِ وَالْكُهُوفِ وَالْبَرَارِي، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ إِلَّا فِي أَيَّامِ الفتَن وَالزَّلَازِلِ فِي الدِّينِ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ(١٤) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الرَّجُلِ(١٥) غَنَم يَتْبَع بِهَا شَعفَ الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ القَطْر، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ".(١٦)وَقَالَ الْعَوْفِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ﴾ قَالَ: الْقَائِمُونَ بِطَاعَةِ اللَّهِ. وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَعَنْهُ رِوَايَةُ: ﴿وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ﴾ قال: لفرائض اللَّهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: الْقَائِمُونَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ.

(١) في أ: "الحمد الله".
(٢) في ت، أ: "الرسول".
(٣) في أ: "ذكر".
(٤) زيادة من ت، ك، أ.
(٥) تفسير الطبري (١٤/٥٠٥) .
(٦) في ت: "ابن".
(٧) تفسير الطبري (١٤/٥٠٣) .
(٨) زيادة من ت، ك، أ.
(٩) تفسير الطبري (١٤/٥٠٢) .
(١٠) في ت: "وهذا"، وفي أ: "فهذا".
(١١) في أ: "سياح".
(١٢) سنن أبي داود برقم (٢٤٨٦) .
(١٣) وهذا معضل، عمارة بن غزية لم يدرك أحدا من الصحابة.
(١٤) في أ: "عن أبي هريرة".
(١٥) في ت، ك، أ: "المسلم".
(١٦) صحيح البخاري برقم (١٩) .

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الثلاثاء، 13 فبراير 2024

من سورة التوبة

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٥٦_٥٧
من سورة التوبة 
﴿وَیَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنَّهُمۡ لَمِنكُمۡ وَمَا هُم مِّنكُمۡ وَلَـٰكِنَّهُمۡ قَوۡمࣱ یَفۡرَقُونَ (٥٦) لَوۡ یَجِدُونَ مَلۡجَـًٔا أَوۡ مَغَـٰرَ ٰ⁠تٍ أَوۡ مُدَّخَلࣰا لَّوَلَّوۡا۟ إِلَیۡهِ وَهُمۡ یَجۡمَحُونَ (٥٧)﴾ [التوبة ٥٦-٥٧]

يُخْبِرُ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، عَنْ جَزَعِهِمْ وَفَزَعِهِمْ وَفَرَقِهِمْ وَهَلَعِهِمْ أَنَّهُمْ ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ﴾ يَمِينًا مُؤَكَّدَةً، ﴿وَمَا هُمْ مِنْكُمْ﴾ أَيْ: فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، ﴿وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾ أَيْ: فَهُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى الْحَلِفِ. ﴿لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً﴾ أَيْ: حِصْنًا يَتَحَصَّنُونَ بِهِ، وَحِرْزًا يَحْتَرِزُونَ بِهِ، ﴿أَوْ مَغَارَاتٍ﴾ وَهِيَ الَّتِي فِي الْجِبَالِ، ﴿أَوْ مُدَّخَلا﴾ وَهُوَ السَّرَب فِي الْأَرْضِ والنفَق. قَالَ ذَلِكَ فِي الثَّلَاثَةِ ابنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ: ﴿لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾ أَيْ: يُسْرِعُونَ فِي ذَهَابِهِمْ عَنْكُمْ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُخَالِطُونَكُمْ كُرْهًا لَا مَحَبَّةً، وَوَدُّوا أَنَّهُمْ لَا يُخَالِطُونَكُمْ، وَلَكِنْ لِلضَّرُورَةِ أَحْكَامٌ؛ وَلِهَذَا لَا يَزَالُونَ فِي هَمٍّ وَحُزْنٍ وغَمٍّ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ لَا يَزَالُ فِي عِزٍّ وَنَصْرٍ وَرِفْعَةٍ؛ فَلِهَذَا كُلَّمَا سُرّ الْمُؤْمِنُونَ سَاءَهُمْ ذَلِكَ، فَهُمْ يَوَدُّونَ أَلَّا يُخَالِطُوا الْمُؤْمِنِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الجمعة، 29 ديسمبر 2023

من سورة التوبة

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٦ من 
سورة التوبة 
﴿وَإِنۡ أَحَدࣱ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ یَسۡمَعَ كَلَـٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبۡلِغۡهُ مَأۡمَنَهُۥۚ ذَ ٰ⁠لِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمࣱ لَّا یَعۡلَمُونَ﴾ [التوبة ٦]

يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ الَّذِينَ أَمَرْتُكَ بِقِتَالِهِمْ، وَأَحْلَلْتُ لَكَ اسْتِبَاحَةَ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، ﴿اسْتَجَارَكَ﴾ أَيْ: اسْتَأْمَنَكَ، فَأَجِبْهُ إِلَى طِلْبَتِهِ ﴿حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ﴾ أَيْ: [الْقُرْآنَ](١) تَقْرَؤُهُ عَلَيْهِ وَتَذْكُرُ لَهُ شَيْئًا مِنْ [أَمْرِ](٢) الدِّينِ تُقِيمُ عَلَيْهِ بِهِ حُجَّةَ اللَّهِ، ﴿ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ أَيْ: وَهُوَ آمِنٌ مُسْتَمِرُّ الْأَمَانِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بِلَادِهِ وَدَارِهِ وَمَأْمَنِهِ، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أَيْ: إِنَّمَا شَرَعْنَا أَمَانَ مِثْلِ هَؤُلَاءِ لِيَعْلَمُوا دِينَ اللَّهِ، وَتَنْتَشِرَ دَعْوَةُ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ.وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ: إِنْسَانٌ يَأْتِيكَ يَسْمَعُ مَا تَقُولُ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ، فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَأْتِيَكَ فَيَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ، وَحَتَّى يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ، حَيْثُ جَاءَ.وَمِنْ هَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعْطِي الْأَمَانَ لِمَنْ جَاءَهُ، مُسْتَرْشِدًا أَوْ فِي رِسَالَةٍ، كَمَا جَاءَهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّسُلِ مِنْ قُرَيْشٍ، مِنْهُمْ: عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، ومِكْرَز بْنُ حَفْصٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَغَيْرُهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، يَتَرَدَّدُونَ فِي الْقَضِيَّةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، فَرَأَوْا مِنْ إِعْظَامِ الْمُسْلِمِينَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بَهَرَهُمْ وَمَا لَمْ يُشَاهِدُوهُ عِنْدَ مَلِكٍ وَلَا قَيْصَرَ، فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَأَخْبَرُوهُمْ بِذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ هِدَايَةِ أَكْثَرِهِمْ.وَلِهَذَا أَيْضًا لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "أَتَشْهَدُ(٣) أَنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللَّهِ؟ " قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ"(٤) وَقَدْ قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ ضَرْبَ الْعُنُقِ فِي إِمَارَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى الْكُوفَةِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ النَّوَّاحَةِ، ظَهَرَ عَنْهُ فِي زَمَانِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ يَشْهَدُ لِمُسَيْلِمَةَ بِالرِّسَالَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ الْآنَ لَسْتَ فِي رِسَالَةٍ، وَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبْتَ عُنُقُهُ، لَا رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَعَنَهُ.وَالْغَرَضُ أَنَّ مَنْ قَدِمَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَدَاءِ رِسَالَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ، أَوْ طَلَبِ صُلْحٍ أَوْ مُهَادَنَةٍ أَوْ حَمْلِ جِزْيَةٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ، فَطَلَبَ مِنَ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَمَانًا، أُعْطِيَ أَمَانًا مَا دَامَ مُتَرَدِّدًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَحَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَأْمَنِهِ وَوَطَنِهِ. لَكِنْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنَ مِنَ الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ سَنَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنَ مِنْ إِقَامَةِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَفِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فِيمَا(٥) زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَنَقَصَ عَنْ سَنَةٍ قَوْلَانِ، عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، رحمهم الله.

(١) زيادة من ت، د، ك، أ.
(٢) زيادة من ت، د، ك، أ.
(٣) في ك: "أما تشهد".
(٤) رواه أحمد في المسند (٣/٤٨٧) وأبو داود في السنن برقم (٢٧٦١) من طريق سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عن سعد بن طارق عن سلمة بن نعيم عن أبيه قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ جاءه رسل مسيلمة، فذكر نحوه.
(٥) في ت: "ما".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الاثنين، 27 نوفمبر 2023

من سورة الأنفال

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٣٦_٣٧
من سورة الأنفال 
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ یُنفِقُونَ أَمۡوَ ٰ⁠لَهُمۡ لِیَصُدُّوا۟ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِۚ فَسَیُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَیۡهِمۡ حَسۡرَةࣰ ثُمَّ یُغۡلَبُونَۗ وَٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ إِلَىٰ جَهَنَّمَ یُحۡشَرُونَ (٣٦) لِیَمِیزَ ٱللَّهُ ٱلۡخَبِیثَ مِنَ ٱلطَّیِّبِ وَیَجۡعَلَ ٱلۡخَبِیثَ بَعۡضَهُۥ عَلَىٰ بَعۡضࣲ فَیَرۡكُمَهُۥ جَمِیعࣰا فَیَجۡعَلَهُۥ فِی جَهَنَّمَۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ (٣٧)﴾ [الأنفال ٣٦-٣٧]

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّان، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، والحُصَيْن بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ مُعَاذٍ، قَالُوا: لَمَّا أُصِيبَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَ بَدْرٍ، وَرَجَعَ فَلُّهم إِلَى مَكَّةَ، وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ بِعِيرِه، مَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ أُصِيبَ آبَاؤُهُمْ، وَأَبْنَاؤُهُمْ وَإِخْوَانُهُمْ بِبَدْرٍ، فَكَلَّمُوا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ فِي تِلْكَ(١) الْعِيرِ مِنْ قُرَيْشٍ تِجَارَةٌ، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَتَرَكم وَقَتَلَ خِيَارَكُمْ، فَأَعِينُونَا بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ، لَعَلَّنَا أَنْ نُدْرِكَ مِنْهُ ثَأْرًا بِمَنْ أُصِيبَ مِنَّا! فَفَعَلُوا. قَالَ: فَفِيهِمْ -كَمَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -أَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ [لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ] ﴾(٢) إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾(٣)وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، والحَكَم بْنِ عُتَيْبَةَ، وقَتَادَةَ، والسُّدِّي، وَابْنِ أبزَى: أَنَّهَا نَزَلَتْ(٤) فِي أَبِي سُفْيَانَ وَنَفَقَتِهِ الْأَمْوَالَ فِي أُحُد لِقِتَالِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.وقال الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ.وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَهِيَ عَامَّةٌ. وَإِنْ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا خَاصًّا، فَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْكُفَّارَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنِ اتِّبَاعِ طَرِيقِ الْحَقِّ، فَسَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ تَذْهَبُ أَمْوَالُهُمْ، ﴿ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً﴾ أَيْ: نَدَامَةً؛ حَيْثُ لَمْ تُجْدِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا إِطْفَاءَ نُورِ اللَّهِ وَظُهُورَ كَلِمَتِهِمْ عَلَى كَلِمَةِ الْحَقِّ، وَاللَّهُ مُتِمٌّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، وَنَاصِرٌ دِينَهُ، ومُعْلِن كَلِمَتَهُ، وَمُظْهِرٌ دِينَهُ عَلَى كُلِّ دِينٍ. فَهَذَا الْخِزْيُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ، فَمَنْ عَاشَ مِنْهُمْ، رَأَى بِعَيْنِهِ وَسَمِعَ بِأُذُنِهِ مَا يَسُوءُهُ، وَمَنْ قُتِل مِنْهُمْ أَوْ مَاتَ، فَإِلَى الخِزْي الْأَبَدِي وَالْعَذَابِ السَّرْمَدِيّ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾
* * *وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ فَيَمِيزَ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ(٥) وَقَالَ السُّدِّي: يَمِيزُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّمْيِيزُ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ﴾ [يُونُسَ:٢٨] ،وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ﴾ [الرُّومِ: ١٤] ،وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ﴾ [الرُّومِ٤٣] ،وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ [يس:٥٩] .وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّمْيِيزُ فِي الدُّنْيَا، بِمَا يَظْهَرُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَكُونُ "اللَّامُ" مُعَلِّلَةً لِمَا جَعَلَ اللَّهُ لِلْكُفَّارِ مِنْ مَالٍ يُنْفِقُونَ فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أَيْ: إِنَّمَا أَقْدَرْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ أَيْ: مَنْ يُطِيعُهُ بِقِتَالِ أَعْدَائِهِ الْكَافِرِينَ، أَوْ يَعْصِيهِ بِالنُّكُولِ عَنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ:١٦٦، ١٦٧] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٧٩] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٢] وَنَظِيرَتُهَا فِي بَرَاءَةَ أَيْضًا.فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا: إِنَّمَا ابْتَلَيْنَاكُمْ بِالْكُفَّارِ يُقَاتِلُونَكُمْ، وَأَقْدَرْنَاهُمْ عَلَى إِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ وَبَذْلِهَا فِي ذَلِكَ؛ لِيَتَمَيَّزَ(٦) الْخَبِيثُ مِنَ الطَّيِّبِ، فَيُجْعَلَ الْخَبِيثُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، ﴿فَيَرْكُمَهُ﴾ أَيْ: يَجْمَعَهُ كُلَّهُ، وَهُوَ جَمْعُ الشَّيْءِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي السَّحَابِ: ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا﴾ [النُّورِ:٤٣] أَيْ: مُتَرَاكِمًا مُتَرَاكِبًا، ﴿فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ أَيْ: هَؤُلَاءِ هُمُ الْخَاسِرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

(١) في م، أ: "ذلك".
(٢) زيادة من م.
(٣) ورواه الطبري في تفسيره (١٣/٥٣٢) .
(٤) في م: "أنزلت".
(٥) في أ: "الشقاوة"
(٦) في د، م: "ليميز الله".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الثلاثاء، 17 أكتوبر 2023

من سورة الأعراف

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٧٩
من سورة الأعراف 
﴿وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِیرࣰا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبࣱ لَّا یَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡیُنࣱ لَّا یُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانࣱ لَّا یَسۡمَعُونَ بِهَاۤۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ كَٱلۡأَنۡعَـٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡغَـٰفِلُونَ﴾ [الأعراف ١٧٩]

يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا﴾ أَيْ: خَلَقْنَا وَجَعَلْنَا ﴿لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ﴾ أَيْ: هَيَّأْنَاهُمْ لَهَا، وَبِعَمَلِ أَهْلِهَا يَعْمَلُونَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلَائِقَ، عَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ كَوْنِهِمْ، فَكَتَبَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي كِتَابٍ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، كَمَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ"(١)وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا، مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عَنْ خَالَتِهَا عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى جِنَازَةِ صَبِيٍّ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طُوبَى لَهُ، عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ، لَمْ يَعْمَلِ السُّوءَ وَلَمْ يُدْرِكْهُ. فَقَالَ [رَسُولُ اللَّهِ ﷺ](٢) أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ يَا عَائِشَةُ؟ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ، وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ النَّارَ، وَخَلَقَ لَهَا(٣) أَهْلًا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ"(٤)وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ](٥) ثُمَّ يَبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلِكَ، فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيَكْتُبُ: رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ(٦) سَعِيدٌ".وَتَقَدَّمَ أَنَّ اللَّهَ [تَعَالَى](٧) لَمَّا اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ وَجَعْلَهُمْ فَرِيقَيْنِ: أَصْحَابُ الْيَمِينِ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ، قَالَ: "هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي، وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَلَا أُبَالِي".وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَمَسْأَلَةُ الْقَدَرِ كَبِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا.
* * *وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ يَعْنِي: لَيْسَ يَنْتَفِعُونَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْجَوَارِحِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ [سَبَبًا لِلْهِدَايَةِ](٨) كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ](٩) ﴾ [الْأَحْقَافِ:٢٦] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ:١٨] هَذَا فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ، وَقَالَ فِي حَقِّ الْكَافِرِينَ: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ:١٧١] وَلَمْ يَكُونُوا صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا إِلَّا عَنِ الْهُدَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال:٢٣] ، وَقَالَ: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الْحَجِّ:٤٦] ، وَقَالَ ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزُّخْرُفِ:٣٦، ٣٧] .
* * *وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ﴾ أَيْ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ الْحَقَّ وَلَا يَعُونَهُ وَلَا يُبْصِرُونَ الْهُدَى، كَالْأَنْعَامِ السَّارِحَةِ الَّتِي لَا تَنْتَفِعُ(١٠) بِهَذِهِ الْحَوَاسِّ مِنْهَا إِلَّا فِي الَّذِي يَعِيشُهَا مِنْ ظَاهِرِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ](١١) ﴾ [الْبَقَرَةِ:١٧١] أَيْ: وَمَثَلُهُمْ -فِي حَالِ دُعَائِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ -كَمَثَلِ الْأَنْعَامِ إِذَا دَعَاهَا رَاعِيهَا لَا تَسْمَعُ إِلَّا صَوْتَهُ، وَلَا تَفْقَهُ(١٢) مَا يَقُولُ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي هَؤُلَاءِ: ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ أَيْ: مِنَ الدَّوَابِّ؛ لِأَنَّ الدَّوَابَّ قَدْ تَسْتَجِيبُ مَعَ ذَلِكَ لِرَاعِيهَا إِذَا أَبَسَّ بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَفْقَهْ كَلَامَهُ، بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ؛ وَلِأَنَّ الدَّوَابَّ تَفْقَهُ(١٣) مَا خُلِقَتْ لَهُ إِمَّا بِطَبْعِهَا وَإِمَّا بِتَسْخِيرِهَا، بِخِلَافِ الْكَافِرِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا خُلِقَ لِيَعْبُدَ اللَّهَ وَيُوَحِّدَهُ، فَكَفَرَ بِاللَّهِ وَأَشْرَكَ بِهِ؛ وَلِهَذَا مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ مِنَ الْبَشَرِ كَانَ أَشْرَفَ مَنْ مِثْلِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي مَعَادِهِ، وَمَنْ كَفَرَ بِهِ(١٤) مِنَ الْبَشَرِ، كَانَتِ الدَّوَابُّ أَتَمَّ مِنْهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾

(١) صحيح مسلم برقم (٢٦٥٣) .
(٢) زيادة من د.
(٣) في د، ك، م: "للنار".
(٤) صحيح مسلم برقم (٢٦٦٢) .
(٥) زيادة من أ.
(٦) في ك، م، أ: "أو".
(٧) زيادة من أ.
(٨) زيادة من د، ك، م، أ.
(٩) زيادة من أ. وفي هـ: "الآية".
(١٠) في ك، م: "لا ينتفع".
(١١) زيادة من أ.
(١٢) في أ: "لا تفهم".
(١٣) في أ: "تفعل".
(١٤) في أ: "بالله".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

السبت، 7 أكتوبر 2023

من سورة الأعراف

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٦٧ من 
سورة الأعراف 
﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَیَبۡعَثَنَّ عَلَیۡهِمۡ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ مَن یَسُومُهُمۡ سُوۤءَ ٱلۡعَذَابِۗ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِیعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورࣱ رَّحِیمࣱ﴾ [الأعراف ١٦٧]

﴿تَأَذَّنَ﴾ تَفَعَّل مِنَ الْإِذْنِ أَيْ: أَعْلَمَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَمَرَ.وَفِي قُوَّةِ الْكَلَامِ مَا يُفِيدُ مَعْنَى الْقَسَمِ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَلِهَذَا تُلُقِّيَت بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ﴾ أَيْ: عَلَى الْيَهُودِ ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ أَيْ: بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ أَوَامِرَ اللَّهِ وَشَرْعَهُ وَاحْتِيَالِهِمْ عَلَى الْمَحَارِمِ.وَيُقَالُ: إِنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، ضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْخَرَاجَ سَبْعَ سِنِينَ -وَقِيلَ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ الْخَرَاجَ. ثُمَّ كَانُوا فِي قَهْرِ الْمُلُوكِ مِنَ الْيُونَانِيِّينَ وَالْكَشْدَانِيِّينَ وَالْكَلْدَانِيِّينَ، ثُمَّ صَارُوا فِي(١) قَهْرِ النَّصَارَى وَإِذْلَالِهِمْ وَإِيَّاهُمْ، أَخْذِهِمْ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ، ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ، وَمُحَمَّدٌ، عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامُ، فَكَانُوا تَحْتَ صُفَارِهِ وَذِمَّتِهِ يُؤَدُّونَ الْخَرَاجَ وَالْجِزَى(٢)قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هِيَ الْمَسْكَنَةُ، وَأَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ.وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْهُ: هِيَ الْجِزْيَةُ، وَالَّذِينَ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ: مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأُمَّتُهُ، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ جُرَيْج، والسُّدِّي، وَقَتَادَةُ.وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: عَنْ مَعْمَر، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: يَسْتَحَبُّ أَنْ تُبْعَثَ الْأَنْبَاطُ فِي الْجِزْيَةِ.قُلْتُ: ثُمَّ آخِرُ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ أَنْصَارَ الدَّجَّالِ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ مَعَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ آخِرَ الزَّمَانِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ﴾ أَيْ: لِمَنْ عَصَاهُ وَخَالَفَ [أَمْرَهُ وَ](٣) شَرْعَهُ، ﴿وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أَيْ: لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ.وَهَذَا مِنْ بَابِ قَرْنِ الرَّحْمَةِ مَعَ الْعُقُوبَةِ، لِئَلَّا يَحْصُلَ الْيَأْسُ، فَيَقْرِنُ [اللَّهُ](٤) تَعَالَى بَيْنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ كَثِيرًا؛ لِتُبْقَى النُّفُوسُ بين الرجاء والخوف.

(١) في ك، م، أ: "إلى".
(٢) في م: "الجزية".
(٣) زيادة من أ.
(٤) زيادة من م.

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

السبت، 16 سبتمبر 2023

من سورة الأعراف

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٤١_١٤٢
من سورة الأعراف 
﴿وَإِذۡ أَنجَیۡنَـٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ یَسُومُونَكُمۡ سُوۤءَ ٱلۡعَذَابِ یُقَتِّلُونَ أَبۡنَاۤءَكُمۡ وَیَسۡتَحۡیُونَ نِسَاۤءَكُمۡۚ وَفِی ذَ ٰ⁠لِكُم بَلَاۤءࣱ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِیمࣱ (١٤١) ۞ وَوَ ٰ⁠عَدۡنَا مُوسَىٰ ثَلَـٰثِینَ لَیۡلَةࣰ وَأَتۡمَمۡنَـٰهَا بِعَشۡرࣲ فَتَمَّ مِیقَـٰتُ رَبِّهِۦۤ أَرۡبَعِینَ لَیۡلَةࣰۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِیهِ هَـٰرُونَ ٱخۡلُفۡنِی فِی قَوۡمِی وَأَصۡلِحۡ وَلَا تَتَّبِعۡ سَبِیلَ ٱلۡمُفۡسِدِینَ (١٤٢)﴾ [الأعراف ١٤١-١٤٢]

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ﴾ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ "أَنْجَاكُمْ" وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّامِ، ﴿مِنَ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ﴾ قَرَأَ نَافِعٌ "يَقْتُلُونَ" خَفِيفَةً، مِنَ الْقَتْلِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّكْثِيرِ مِنَ التَّقْتِيلِ، ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً﴾ ذِي الْقِعْدَةِ، ﴿وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ﴾ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، ﴿فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى﴾ عِنْدَ انْطِلَاقِهِ إِلَى الْجَبَلِ لِلْمُنَاجَاةِ ﴿لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي﴾ كُنْ خَلِيفَتِي، ﴿فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ﴾ أَيْ أَصْلِحْهُمْ بِحَمْلِكَ إِيَّاهُمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الرِّفْقَ بِهِمْ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ ﴿وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ أَيْ: لَا تُطِعْ مَنْ عَصَى اللَّهَ وَلَا تُوَافِقْهُ عَلَى أَمْرِهِ، وَذَلِكَ أَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ بِمِصْرَ: أَنَّ اللَّهَ إِذَا أَهْلَكَ عَدُوَّهُمْ أَتَاهُمْ بِكِتَابٍ فِيهِ بَيَانُ مَا يَأْتُونَ وَمَا يَذَرُوَنَ! فَلَمَّا فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِهِمْ سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ الْكِتَابَ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا تَمَّتْ ثَلَاثُونَ أَنْكَرَ خُلُوفَ فَمِهِ، فَتَسَوَّكَ بِعُودِ خَرُّوبٍ.وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: أَكَلَ مِنْ لِحَاءِ شَجَرَةٍ، فَقَالَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: كُنَّا نَشُمُّ مِنْ فِيكَ رَائِحَةَ الْمِسْكِ، فَأَفْسَدْتَهُ بِالسِّوَاكِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَصُومَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ خُلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدِي مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، فَكَانَتْ فِتْنَتُهُمْ فِي الْعَشْرِ الَّتِي زَادَهَا.

(تفسير البغوي — البغوي (٥١٦ هـ))