الخميس، 27 أبريل 2023

من سورة إبراهيم

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٢١
من سورة إبراهيم 
﴿وَبَرَزُوا۟ لِلَّهِ جَمِیعࣰا فَقَالَ ٱلضُّعَفَـٰۤؤُا۟ لِلَّذِینَ ٱسۡتَكۡبَرُوۤا۟ إِنَّا كُنَّا لَكُمۡ تَبَعࣰا فَهَلۡ أَنتُم مُّغۡنُونَ عَنَّا مِنۡ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَیۡءࣲۚ قَالُوا۟ لَوۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ لَهَدَیۡنَـٰكُمۡۖ سَوَاۤءٌ عَلَیۡنَاۤ أَجَزِعۡنَاۤ أَمۡ صَبَرۡنَا مَا لَنَا مِن مَّحِیصࣲ﴾ [إبراهيم ٢١]

يَقُولُ: ﴿وَبَرَزُوا [لِلَّهِ](١) ﴾ أَيْ: بَرَزَتِ الْخَلَائِقُ كُلُّهَا، بَرُّهَا وَفَاجِرُهَا لِلَّهِ وَحْدَهُ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، أَيِ: اجْتَمَعُوا لَهُ فِي بِرَازٍ(٢) مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يَسْتُرُ أَحَدًا.﴿فَقَالَ الضُّعَفَاءُ﴾ وَهْمُ الْأَتْبَاعُ لِقَادَتِهِمْ وَسَادَتِهِمْ وَكُبَرَائِهِمُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عَنْ عِبَادَةِ.اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَعَنْ مُوَافَقَةِ الرُّسُلِ، فَقَالُوا لَهُمْ: ﴿إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا﴾ أَيْ: مَهْمَا أَمَرْتُمُونَا ائْتَمَرْنَا وَفَعَلْنَا، ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ أَيْ: فَهَلْ تَدْفَعُونَ عَنَّا شَيْئًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، كَمَا كُنْتُمْ تَعِدُونَنَا وَتُمَنُّونَنَا؟ فَقَالَتِ الْقَادَةُ لَهُمْ: ﴿لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ﴾ وَلَكِنْ حَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا، وَسَبْقَ فِينَا وَفِيكُمْ قَدَرُ اللَّهِ، وَحَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ.﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾ أَيْ: لَيْسَ لَنَا خَلاص مِمَّا نَحْنُ فِيهِ إِنْ صَبْرَنَا عَلَيْهِ أَوْ جَزِعْنَا مِنْهُ.قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: إِنَّ أَهْلَ النَّارِ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعَالَوْا، فَإِنَّمَا أَدْرَكَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ بِبُكَائِهِمْ وَتَضَرُّعِهِمْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، تَعَالَوْا نَبْكِ وَنَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ فَبَكَوْا وَتَضَرَّعُوا، فَلَّمَا رَأَوْا ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُمْ قَالُوا: تَعَالَوْا، فَإِنَّمَا أَدْرَكَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ بِالصَّبْرِ، تَعَالَوْا حَتَّى نَصْبِرَ فَصَبَرُوا صَبْرًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا(٣) ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْمُرَاجَعَةَ فِي النَّارِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ إِلَيْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ﴾ [غَافِرٍ: ٤٧، ٤٨] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ(٤) النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف: ٣٨، ٣٩] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾ [الْأَحْزَابِ: ٦٦ -٦٨] .وَأَمَّا تُخَاصِمُهُمْ فِي الْمَحْشَرِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ(٥) مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا(٦) النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [سَبَأٍ: ٣١ -٣٣] .

(١) زيادة من أ.
(٢) في ت: "برار".
(٣) في أ: "فقالوا".
(٤) في ت: "في".
(٥) في ت، أ: "المجرمون" وهو خطأ.
(٦) في ت: "وأسر وهو خطأ.

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الأربعاء، 26 أبريل 2023

من سورة الكهف

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٤٢_٤٤ 
من سورة الكهف 
﴿وَأُحِیطَ بِثَمَرِهِۦ فَأَصۡبَحَ یُقَلِّبُ كَفَّیۡهِ عَلَىٰ مَاۤ أَنفَقَ فِیهَا وَهِیَ خَاوِیَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَیَقُولُ یَـٰلَیۡتَنِی لَمۡ أُشۡرِكۡ بِرَبِّیۤ أَحَدࣰا (٤٢) وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ فِئَةࣱ یَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا (٤٣) هُنَالِكَ ٱلۡوَلَـٰیَةُ لِلَّهِ ٱلۡحَقِّۚ هُوَ خَیۡرࣱ ثَوَابࣰا وَخَیۡرٌ عُقۡبࣰا (٤٤)﴾ [الكهف ٤٢-٤٤]

يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ بِأَمْوَالِهِ، أَوْ بِثِمَارِهِ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ وَقَعَ بِهَذَا الْكَافِرِ مَا كَانَ يَحْذَرُ، مِمَّا خَوَّفه بِهِ الْمُؤْمِنُ مِنْ إِرْسَالِ الْحُسْبَانِ(١) عَلَى جَنَّتِهِ، الَّتِي اغْتَرَّ بِهَا(٢) وَأَلْهَتْهُ عَنِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ ﴿فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا﴾ وَقَالَ قَتَادَةُ: يُصفّق كَفَّيْهِ مُتَأَسِّفًا مُتَلَهِّفًا عَلَى الْأَمْوَالِ الَّتِي أَذْهَبَهَا عَلَيْهِ ﴿وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ﴾ أَيْ: عَشِيرَةٌ أَوْ وَلَدٌ، كَمَا افْتَخَرَ بِهِمْ وَاسْتَعَزَّ ﴿يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ﴾ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ هَاهُنَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ﴾ أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ الَّذِي حَلَّ بِهِ عَذَابُ اللَّهِ، فَلَا مُنْقِذَ مِنْهُ. وَيَبْتَدِئُ [بِقَوْلِهِ](٣) ﴿الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ﴾ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ عَلَى: ﴿وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا﴾ وَيَبْتَدِئُ بِقَوْلِهِ: ﴿هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ﴾ .ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَةِ ﴿الْوَلايَةُ﴾ فَمِنْهُمْ مَنْ فَتَحَ الْوَاوَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: هُنَالِكَ الْمُوَالَاةُ(٤) لِلَّهِ، أَيْ: هُنَالِكَ(٥) كُلُّ أَحَدٍ(٦) مِنْ مُؤْمِنٍ أَوْ كَافِرٍ(٧) يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى مُوَالَاتِهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ إِذَا وَقَعَ الْعَذَابُ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ﴾ [غَافِرَ:٨٤] وَكَقَوْلِهِ إِخْبَارًا عَنْ فِرْعَوْنَ: ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يُونُسَ:٩١، ٩٠]وَمِنْهُمْ مَنْ كَسَرَ الْوَاوَ مِنْ ﴿الْوَلايَةُ﴾ أَيْ: هُنَالِكَ الْحُكْمُ لِلَّهِ الْحَقِّ.ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ رَفَعَ ﴿الْحَقِّ﴾ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْوَلَايَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا﴾ [الْفُرْقَانِ:٢٦]وَمِنْهُمْ مَنْ خَفَضَ الْقَافَ، عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ [الْأَنْعَامِ:٦٢] ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا﴾ أَيْ: جَزَاءً ﴿وَخَيْرٌ عُقْبًا﴾ أَيْ: الْأَعْمَالُ الَّتِي تَكُونُ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، ثَوَابُهَا خَيْرٌ، وَعَاقِبَتُهَا حَمِيدَةٌ رَشِيدَةٌ، كُلُّهَا خَيْرٌ.

(١) في ت: "الحسنات".
(٢) في ت: "اعتز".
(٣) زيادة من أ.
(٤) في ت: "الولاية".
(٥) في ت: "هناك".
(٦) في ف: "واحد".
(٧) في ف: "وكافر".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

السبت، 15 أبريل 2023

من سورة الكهف

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٢٣_٢٤ 
من سورة الكهف 
﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَا۟یۡءٍ إِنِّی فَاعِلࣱ ذَ ٰ⁠لِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ ٱللَّهُۚ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِیتَ وَقُلۡ عَسَىٰۤ أَن یَهۡدِیَنِ رَبِّی لِأَقۡرَبَ مِنۡ هَـٰذَا رَشَدࣰا (٢٤)﴾ [الكهف ٢٣-٢٤]

هَذَا إِرْشَادٌ مِنَ الله لرسوله الله صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، إِلَى الْأَدَبِ فِيمَا إِذَا عَزَمَ عَلَى شَيْءٍ لِيَفْعَلَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَّامِ الْغُيُوبِ، الَّذِي يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنه [قَالَ](١) قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: لأطوفن الليلة على سَبْعِينَ امْرَأَةً -وَفِي رِوَايَةِ تِسْعِينَ امْرَأَةً. وَفِي رِوَايَةٍ: مِائَةِ امْرَأَةٍ-تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقِيلَ لَهُ -وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ-قُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمْ يَقُلْ فَطَافَ بِهِنَّ فَلَمْ يَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: "إِنْ شَاءَ اللَّهُ" لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرْكًا لِحَاجَتِهِ"، وَفِي رِوَايَةٍ: "وَلَقَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ(٢)(٣)وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ، لَمَّا سُئِلَ عَنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: "غَدًا أُجِيبُكُمْ". فَتَأَخَّرَ الْوَحْيُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِطُولِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ قِيلَ: مَعْنَاهُ إِذَا نَسِيتَ الِاسْتِثْنَاءَ، فَاسْتَثْنِ عِنْدَ ذِكْرِكَ لَهُ. قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ.وَقَالَ هُشَيْمٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ؟ قَالَ: لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ وَلَوْ إِلَى سَنَةٍ، وَكَانَ يَقُولُ: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ فِي ذَلِكَ. قِيلَ لِلْأَعْمَشِ: سَمِعْتَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ؟ قَالَ(٤) حَدَّثَنِي بِهِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، يَرَى(٥) ذَهَبَ كِسَائِي هَذَا.وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهِ(٦) .وَمَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّهُ يَسْتَثْنِي وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ" أَيْ: إِذَا نَسِيَ أَنْ يَقُولَ فِي حَلِفِهِ أَوْ كَلَامِهِ "إِنْ شَاءَ اللَّهُ" وَذَكَرَ وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ، فالسُّنة لَهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ، لِيَكُونَ آتِيًا بسُنَّة الِاسْتِثْنَاءِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الْحِنْثِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ، لَا أَنْ يَكُونَ [ذَلِكَ](٧) رَافِعًا لِحِنْثِ الْيَمِينِ وَمُسْقِطًا لِلْكَفَّارَةِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِحَمْلِ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ أَيْ: إِذَا غَضِبْتَ. وَهَذَا تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ.وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الحُلْواني، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ أَنْ تَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ(٨) [وَهَذَا تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ](٩) .وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ الجُبيلي(١٠) حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ حُصَيْن، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ أَنْ تَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ.وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ الِاسْتِثْنَاءَ، فَاسْتَثْنِ إِذَا ذَكَرْتَ. وَقَالَ: هِيَ خَاصَّةٌ بِرَسُولِ(١١) اللَّهِ ﷺ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَ إِلَّا فِي صِلَةٍ مِنْ يَمِينِهِ ثُمَّ قَالَ: تَفَرَّد بِهِ الْوَلِيدُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحُصَيْنِ(١٢)(١٣) .وَيَحْتَمِلُ فِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، قَدْ أَرْشَدَ مَنْ نَسِيَ الشَّيْءَ فِي كَلَامِهِ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ مَنْشَؤُهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، كَمَا قَالَ فَتَى مُوسَى: ﴿وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ [الْكَهْفِ: ٦٣] وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى يَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، فَإِذَا ذَهَبَ الشَّيْطَانُ ذَهَبَ النِّسْيَانُ، فَذِكْرُ اللَّهِ سَبَبٌ لِلذِّكْرِ(١٤) ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ .وقوله: ﴿وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا﴾ أَيْ: إِذَا سئُلت عَنْ شَيْءٍ لَا تَعْلَمُهُ، فَاسْأَلِ اللَّهَ فِيهِ، وَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ فِي أَنْ يُوَفِّقَكَ لِلصَّوَابِ وَالرَّشَدِ [فِي ذَلِكَ](١٥) وقيل في تفسيره غَيْرُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(١) زيادة من ت، ف، أ.
(٢) في ت، ف: "أجمعين".
(٣) صحيح البخاري برقم (٥٢٤٢) رواية المائة، وبرقم (٦٧٢٠) رواية التسعين، وصحيح مسلم برقم (١٦٥٤) .
(٤) في ف: "فقال".
(٥) في ت: "ترى".
(٦) تفسير الطبري (١٥/١٥١) والمعجم الكبير للطبراني (١١/٦٨) .
(٧) زيادة من ف.
(٨) المعجم الكبير (١٢/١٧٩) .
(٩) زيادة من ف.
(١٠) في ت، ف: "الحبلى".
(١١) في ت: "يا رسول"؟، وفي ف: "لرسول".
(١٢) في ف: "حصين".
(١٣) المعجم الأوسط برقم (٣٣٥٧) "مجمع البحرين".
(١٤) في ت: "سبب الذكر".
(١٥) زيادة من ف، أ.

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الخميس، 13 أبريل 2023

من سورة الكهف

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٢٢
من سورة الكهف 
﴿سَیَقُولُونَ ثَلَـٰثَةࣱ رَّابِعُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ وَیَقُولُونَ خَمۡسَةࣱ سَادِسُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ رَجۡمَۢا بِٱلۡغَیۡبِۖ وَیَقُولُونَ سَبۡعَةࣱ وَثَامِنُهُمۡ كَلۡبُهُمۡۚ قُل رَّبِّیۤ أَعۡلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا یَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِیلࣱۗ فَلَا تُمَارِ فِیهِمۡ إِلَّا مِرَاۤءࣰ ظَـٰهِرࣰا وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِیهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدࣰا﴾ [الكهف ٢٢]

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي عِدَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فَحَكَى ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِرَابِعٍ، وَلِمَا ضَعَّف الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِقَوْلِهِ: ﴿رَجْمًا بِالْغَيْبِ﴾ أَيْ: قَوْلًا بِلَا عِلْمٍ، كَمَنْ(١) يَرْمِي إِلَى مَكَانٍ لَا يَعْرِفُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُصِيبُ، وَإِنْ أَصَابَ فَبِلَا قَصْدٍ، ثُمَّ حَكَى الثَّالِثَ وَسَكَتَ عَلَيْهِ أَوْ قَرَّرَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ﴾ إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ الْأَحْسَنَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ رَدُّ الْعِلْمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَا احْتِيَاجَ إِلَى الْخَوْضِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِلَا عِلْمٍ، لَكِنْ إِذَا أَطْلَعَنَا عَلَى أَمْرٍ قُلْنَا بِهِ، وَإِلَّا وَقَفْنَا حَيْثُ وَقَفْنَا.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ﴾ أَيْ: مِنَ النَّاسِ. قَالَ قَتَادَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا مِنَ الْقَلِيلِ الَّذِي اسْتَثْنَى اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، كَانُوا سَبْعَةً. وَكَذَا رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ(٢) عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَنَا مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ، وَيَقُولُ: عَدَّتُهُمْ سَبْعَةٌ.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ(٣) حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاك، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ﴾ قَالَ: أَنَا مِنَ الْقَلِيلِ، كَانُوا سَبْعَةً.فَهَذِهِ أَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا سَبْعَةً، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ.وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَار عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَقَدْ حُدّثتُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى بَعْضِهِمْ مِنْ حَدَاثَةِ سِنِّهِ وَضَح الوَرِق. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكَانُوا كَذَلِكَ لَيْلَهُمْ وَنَهَارَهُمْ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، يَبْكُونَ(٤) وَيَسْتَغِيثُونَ بِاللَّهِ، وَكَانُوا ثَمَانِيَةَ نَفَرٍ: مَكْسَلْمِينَا(٥) وَكَانَ أَكْبَرَهُمْ وَهُوَ الَّذِي كَلَّمَ الْمَلِكَ عَنْهُمْ، وَمَجْسِيمِيلِنِينَا وَتِمْلِيخَا(٦) وَمَرْطُونَسُ، وَكَشْطُونَسُ، وَبَيْرُونَسُ، وَدِيمُوسُ، وَيَطُونَسُ وَقَالُوشُ.هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَيُحْتَمَلُ(٧) هَذَا مِنْ كَلَامِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَمِنْ بَيْنِهِ وَبَيْنَهُ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا سَبْعَةً، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ شُعَيْبٍ الْجَبَّائِيِّ أَنَّ اسْمَ كَلْبِهِمْ حِمْرَانُ(٨) ، وَفِي تَسْمِيَتِهِمْ بِهَذِهِ(٩) الْأَسْمَاءِ وَاسْمِ كَلْبِهِمْ نَظَرٌ فِي صِحَّتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ؛ فَإِنَّ غَالِبَ ذَلِكَ مُتَلَقَّى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا﴾ أَيْ: سَهْلًا هَيِّنًا؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ فِي مَعْرِفَةِ(١٠) ذَلِكَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ كَبِيرُ(١١) فَائِدَةٍ ﴿وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ أَيْ: فَإِنَّهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا مَا يَقُولُونَهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ، أَيْ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى كَلَامٍ مَعْصُومٍ، وَقَدْ جَاءَكَ اللَّهُ يَا مُحَمَّدُ بِالْحَقِّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا مِرْيَةَ، فَهُوَ الْمُقَدِّمُ الْحَاكِمُ عَلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمُهُ(١٢) مِنَ الْكُتُبِ وَالْأَقْوَالِ.

(١) في أ: "لمن".
(٢) في ت: "ابن".
(٣) في ت: "يسار".
(٤) في ت،، ف، أ: "يتلون".
(٥) في هـ: "مكيليممنينا"، والمثبت من ت، ف، أ.
(٦) في ف: "شمليخا".
(٧) في ف، أ: "ويحتمل أن يكون".
(٨) في ت: "خمران".
(٩) في ت: "بهذا".
(١٠) في ت: "معرفته".
(١١) في ف: "كثير".
(١٢) في ف: "على من تقدمه".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الأربعاء، 12 أبريل 2023

من سورة الكهف

﴿وَكَذَ ٰ⁠لِكَ أَعۡثَرۡنَا عَلَیۡهِمۡ لِیَعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣱّ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَیۡبَ فِیهَاۤ إِذۡ یَتَنَـٰزَعُونَ بَیۡنَهُمۡ أَمۡرَهُمۡۖ فَقَالُوا۟ ٱبۡنُوا۟ عَلَیۡهِم بُنۡیَـٰنࣰاۖ رَّبُّهُمۡ أَعۡلَمُ بِهِمۡۚ قَالَ ٱلَّذِینَ غَلَبُوا۟ عَلَىٰۤ أَمۡرِهِمۡ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَیۡهِم مَّسۡجِدࣰا﴾ [الكهف ٢١]

يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ﴾ أَيْ: أَطْلَعْنَا عَلَيْهِمُ النَّاسَ ﴿لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا﴾ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ حَصَلَ لِأَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ شَكٌّ فِي الْبَعْثِ وَفِي أَمْرِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ قَدْ قَالُوا: تُبْعَثُ الْأَرْوَاحُ وَلَا تُبْعَثُ الْأَجْسَادُ. فَبَعَثَ اللَّهُ أَهْلَ الْكَهْفِ حُجَّةً(١) وَدَلَالَةً وَآيَةً عَلَى ذَلِكَ.وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَحَدُهُمُ الْخُرُوجَ لِيَذْهَبَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فِي شِرَاءِ شَيْءٍ لَهُمْ لِيَأْكُلُوهُ، تَنَكَّرَ وَخَرَجَ يَمْشِي فِي غَيْرِ الْجَادَّةِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَدِينَةِ، وَذَكَرُوا أَنَّ اسْمَهَا دِقْسُوسُ(٢) وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَرِيبُ الْعَهْدِ بِهَا، وَكَانَ النَّاسُ قَدْ تَبَدَّلُوا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وَأُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ، وَتَغَيَّرَتِ الْبِلَادُ وَمَنْ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:أَمَّا الدّيارُ فَإنَّها كَديارهِم ... وَأرَى رجالَ الحَي غَيْرَ رجَاله ...فَجَعَلَ لَا يَرَى شَيْئًا مِنْ مَعَالِمِ الْبَلَدِ الَّتِي يَعْرِفُهَا، وَلَا يَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا، لَا(٣) خَوَاصِّهَا وَلَا عَوَامِّهَا، فَجَعَلَ يَتَحَيَّرُ فِي نَفْسِهِ وَيَقُولُ: لَعَلَّ بِي جُنُونًا أَوْ مَسًّا، أَوْ أَنَا حَالِمٌ، وَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا بِي شَيْءٌ(٤) مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّ عَهْدِي بِهَذِهِ الْبَلْدَةِ عَشِيَّةَ أَمْسٍ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ تَعْجِيلَ الْخُرُوجِ مِنْ هَاهُنَا لَأَوْلَى لِي. ثُمَّ عَمَدَ إِلَى رَجُلٍ مِمَّنْ يَبِيعُ الطَّعَامَ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ مَا مَعَهُ مِنَ النَّفَقَةِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِهَا طَعَامًا. فَلَمَّا رَآهَا ذَلِكَ الرَّجُلُ أَنْكَرَهَا وَأَنْكَرَ ضَرْبها، فَدَفَعَهَا إِلَى جَارِهِ، وَجَعَلُوا يَتَدَاوَلُونَهَا بَيْنَهُمْ وَيَقُولُونَ: لَعَلَّ هَذَا قَدْ وَجَدَ كَنْزًا. فَسَأَلُوهُ عَنْ أَمْرِهِ، وَمِنْ أَيْنَ لَهُ هَذِهِ النَّفَقَةُ؟ لَعَلَّهُ وَجَدَهَا مِنْ كَنْزٍ. وَمَنْ أَنْتَ؟ فَجَعَلَ يَقُولُ: أَنَا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمَدِينَةِ(٥) وَعَهْدِي بِهَا عَشِيَّةَ أَمْسٍ وَفِيهَا دَقْيَانُوسُ. فَنَسَبُوهُ إِلَى الْجُنُونِ، فَحَمَلُوهُ إِلَى وَلِيِّ أَمْرِهِمْ، فَسَأَلَهُ عَنْ شَأْنِهِ وَعَنْ أَمْرِهِ حَتَّى أَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِهِ، وَهُوَ مُتَحَيِّرٌ فِي حَالِهِ، وَمَا هُوَ فِيهِ. فَلَمَّا أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ قَامُوا مَعَهُ إِلَى الْكَهْفِ: مُتَوَلّى الْبَلَدِ وَأَهْلُهَا، حَتَّى انْتَهَى بِهِمْ إِلَى الْكَهْفِ، فَقَالَ: دَعُونِي حَتَّى أَتَقَدَّمَكُمْ في الدخول لأعلم أصحابي، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ كَيْفَ ذَهَبَ فِيهِ، وَأَخْفَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ خَبَرَهُ(٦) وَيُقَالُ: بَلْ دَخَلُوا عَلَيْهِمْ، وَرَأَوْهُمْ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ الْمَلِكُ وَاعْتَنَقَهُمْ، وَكَانَ مُسْلِمًا فِيمَا قِيلَ، وَاسْمُهُ تِيدُوسِيسُ(٧) فَفَرِحُوا بِهِ وَآنَسُوهُ بِالْكَلَامِ، ثُمَّ وَدَّعُوهُ(٨) وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَعَادُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَتَوَفَّاهُمُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.قَالَ قَتَادَةُ: غَزَا(٩) ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ، فَمَرُّوا بِكَهْفٍ فِي بِلَادِ الرُّومِ، فَرَأَوْا فِيهِ عِظَامًا، فَقَالَ قَائِلٌ: هَذِهِ عِظَامُ أَهْلِ الْكَهْفِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ بَلِيَتْ عِظَامُهُمْ مِنْ أَكْثَرِ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ﴾(١٠) أي: كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيآتهم، أَطْلَعْنَا عَلَيْهِمْ أَهْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ ﴿لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ﴾ أَيْ: فِي أَمْرِ الْقِيَامَةِ، فَمِنْ مُثْبِتٍ لَهَا وَمِنْ مُنْكِرٍ، فَجَعَلَ اللَّهُ ظُهُورَهُمْ عَلَى أَصْحَابِ الْكَهْفِ حُجَّةً لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ ﴿فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ﴾ أَيْ: سُدُّوا عَلَيْهِمْ بَابَ كَهْفِهِمْ، وَذَرُوهُمْ عَلَى حَالِهِمْ ﴿قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي الْقَائِلِينَ(١١) ذَلِكَ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ. وَالثَّانِي: أَهْلُ الشِّرْكِ مِنْهُمْ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ(١٢)وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ هُمْ أَصْحَابُ الْكَلِمَةِ وَالنُّفُوذِ. وَلَكِنْ هَلْ هُمْ مَحْمُودُونَ أَمْ لَا؟ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ"(١٣) يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا. وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ لَمَّا وَجَدَ قَبْرَ دَانْيَالَ فِي زَمَانِهِ بِالْعِرَاقِ، أَمَرَ أَنْ يُخْفَى عَنِ النَّاسِ، وَأَنْ تُدْفَنَ تِلْكَ الرُّقْعَةُ الَّتِي وَجَدُوهَا عِنْدَهُ، فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَلَاحِمِ وَغَيْرِهَا.

(١) في ت: "وحجة".
(٢) في ت: "دقوس".
(٣) في ت، ف: "ولا".
(٤) في ت: "شتى".
(٥) في ت: "النفقة".
(٦) في ت، ف: "خبرهم".
(٧) في ت: "تيدرسين"، وفي ف: "بيدوسيس".
(٨) في ت، ف: "دعوه".
(٩) في ت: "وعن".
(١٠) في ت: "أعثرناهم" وهو خطأ.
(١١) في ت: "القائل".
(١٢) في ت: "والله أعلم".
(١٣) رواه البخاري في صحيحه برقم (١٣٣٠) من حديث عائشة، رضي الله عنها.

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الأحد، 9 أبريل 2023

من سورة الكهف

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٧
من سورة الكهف 
﴿۞ وَتَرَى ٱلشَّمۡسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَ ٰ⁠وَرُ عَن كَهۡفِهِمۡ ذَاتَ ٱلۡیَمِینِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقۡرِضُهُمۡ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمۡ فِی فَجۡوَةࣲ مِّنۡهُۚ ذَ ٰ⁠لِكَ مِنۡ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِۗ مَن یَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ وَمَن یُضۡلِلۡ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ وَلِیࣰّا مُّرۡشِدࣰا﴾ [الكهف ١٧]

هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَابَ هَذَا الْكَهْفِ مِنْ نَحْوِ الشَّمَالِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا دَخَلَتْهُ عِنْدَ طُلُوعِهَا تَزَاوَرُ عَنْهُ ﴿ذَاتَ الْيَمِينِ﴾ أَيْ: يَتَقَلَّصُ الْفَيْءُ يَمْنَةً(١) كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ: ﴿تَزَاوَرُ﴾ أَيْ: تَمِيلُ؛ وَذَلِكَ أَنَّهَا كُلَّمَا ارْتَفَعَتْ فِي الْأُفُقِ تَقَلَّصَ شُعَاعُهَا بِارْتِفَاعِهَا حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ عِنْدَ الزَّوَالِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ﴾ أَيْ: تَدْخُلُ إِلَى غَارِهِمْ مِنْ شِمَالِ بَابِهِ، وَهُوَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ، وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ وَكَانَ لَهُ عِلْمٌ بِمَعْرِفَةِ الْهَيْئَةِ، وَسَيْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ، وَبَيَانُهُ(٢) أَنَّهُ(٣) لَوْ كَانَ بَابُ الْغَارِ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّرْقِ(٤) لَمَا دَخَلَ إِلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ لَمَا دَخَلَ مِنْهَا شَيْءٌ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَلَا عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَلَا تَزَاوَرَ الْفَيْءُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا وَلَوْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْغَرْبِ(٥) لَمَا دَخَلَتْهُ وَقْتَ الطُّلُوعِ، بَلْ بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَمْ تَزَلْ فِيهِ إِلَى الْغُرُوبِ. فَتَعَيَّنَ(٦) مَا ذَكَرْنَاهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: ﴿تَقْرِضُهُمْ﴾ تَتْرُكُهُمْ.وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ وَأَرَادَ مِنَّا فَهْمَهُ وَتَدَبُّرَهُ، وَلَمْ يُخْبِرْنَا بِمَكَانِ هَذَا الْكَهْفِ فِي أَيِّ الْبِلَادِ مِنَ الْأَرْضِ؛ إِذْ لَا فَائِدَةٌ لَنَا فِيهِ وَلَا قَصْدٌ(٧) شَرْعِيٌّ. وَقَدْ تَكَلَّفَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَذَكَرُوا فِيهِ أَقْوَالًا فَتَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: [هُوَ](٨) قَرِيبٌ مِنْ أَيْلَةَ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ عِنْدَ نِينَوَى. وَقِيلَ: بِبِلَادِ الرُّومِ. وَقِيلَ: بِبِلَادِ الْبَلْقَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَيِّ بِلَادِ اللَّهِ هُوَ. وَلَوْ كَانَ لَنَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ لَأَرْشَدْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَيْهِ(٩) فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَا تَرَكْتُ شَيْئًا يُقَرِّبُكُمْ إِلَى [الْجَنَّةِ](١٠) وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ، إِلَّا وَقَدْ أَعْلَمْتُكُمْ بِهِ". فَأَعْلَمَنَا تَعَالَى بِصِفَتِهِ، وَلَمْ يُعْلِمْنَا بِمَكَانِهِ، فَقَالَ ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ﴾ قَالَ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: تَمِيلُ ﴿ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ﴾ أَيْ: فِي مُتَّسَعٍ مِنْهُ دَاخِلًا بِحَيْثُ لَا تَمَسُّهُمْ؛ إِذْ لَوْ أَصَابَتْهُمْ لَأَحْرَقَتْ أَبْدَانَهُمْ وَثِيَابَهُمْ(١١) قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.﴿ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ حَيْثُ أَرْشَدَهُمْ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْغَارِ الَّذِي جَعَلَهُمْ فِيهِ أَحْيَاءً، وَالشَّمْسُ وَالرِّيحُ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِيهِ لِتَبْقَى أَبْدَانُهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ثُمَّ قَالَ: ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ أَيْ: هُوَ الَّذِي أَرْشَدَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ إِلَى الْهِدَايَةِ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ اهْتَدَى، وَمَنْ أَضَلَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

(١) في ت: "عنه"، وفي أ: "يمينه".
(٢) في ت: "فبانه".
(٣) في ف: "أن".
(٤) في ف، أ: "المشرق".
(٥) في أ: "المغرب".
(٦) في ت: "فتعى".
(٧) في ت: "ولا تضر".
(٨) زيادة من ف.
(٩) في ت: "الله".
(١٠) زيادة من ف، وفي ت: "الله".
(١١) في ت: "ثيابهم وأبدانهم"، وفي ف، أ: "ثيابهم وأجسادهم".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الخميس، 6 أبريل 2023

من سورة الكهف

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١_٥ 
من سورة الكهف 
﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ ٱلۡكِتَـٰبَ وَلَمۡ یَجۡعَل لَّهُۥ عِوَجَاۜ (١) قَیِّمࣰا لِّیُنذِرَ بَأۡسࣰا شَدِیدࣰا مِّن لَّدُنۡهُ وَیُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ ٱلَّذِینَ یَعۡمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنࣰا (٢) مَّـٰكِثِینَ فِیهِ أَبَدࣰا (٣) وَیُنذِرَ ٱلَّذِینَ قَالُوا۟ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدࣰا (٤) مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمࣲ وَلَا لِـَٔابَاۤىِٕهِمۡۚ كَبُرَتۡ كَلِمَةࣰ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَ ٰ⁠هِهِمۡۚ إِن یَقُولُونَ إِلَّا كَذِبࣰا (٥)﴾ [الكهف ١-٥]

[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَبِهِ نَسْتَعِينُ](١)تَفْسِيرُ سُورَةِ الْكَهْفِوَهِيَ مَكِّيَّةٌ.ذِكْرُ مَا وَرَدَ فِي فَضْلِهَا، وَالْعَشَرِ الْآيَاتِ مِنْ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا، وَأَنَّهَا عِصْمَةٌ مِنَ الدَّجَّالِ:قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: قَرَأَ رَجُلٌ الْكَهْفَ، وَفِي الدَّارِ دَابَّةٌ، فَجَعَلَتْ تَنْفِرُ، فَنَظَرَ فَإِذَا ضَبَابَةٌ -أَوْ: سَحَابَةٌ-قَدْ غَشِيَتْهُ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: " اقْرَأْ فُلَانُ، فَإِنَّهَا السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ عِنْدَ الْقُرْآنِ، أَوْ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ ".أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، بِهِ(٢) . وَهَذَا الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ يَتْلُوهَا هُوَ: أسَيْدُ بْنُ الحُضَيْر، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ(٣) .وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حدثنا يزيد، أخبرنا هَمّام بن يحيى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدان بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: " مَنْ حَفظ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ، عُصِم مِنَ الدَّجَّالِ ".رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ(٤) مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ بِهِ(٥) . وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ: " مَنْ حَفِظَ الثَّلَاثَ الْآيَاتَ مَنْ أَوَّلِ الْكَهْفِ " وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ] الْإِمَامُ [(٦) أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ أَبِي الْجَعْدِ يُحَدِّثُ عَنْ مَعْدَانَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: " من قَرَأَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِم مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ ".وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ، بِهِ(٧) . وَفِي لَفْظِ النَّسَائِيِّ: " مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنَ الْكَهْفِ "، فَذَكَرَهُ.حَدِيثٌ آخَرُ: وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي " الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ " عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ ثَوْبان عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ قَرَأَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ، فَإِنَّهُ عِصْمَةٌ لَهُ مِنَ الدَّجَّالِ "(٨) .فَيُحْتَمَلُ أَنَّ سالما سمعه من ثوبان ومن أَبِي الدَّرْدَاءِ.وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنَا زبَّان بْنُ فَايِدٍ(٩) عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ قَرَأَ أَوَّلَ سُورَةِ الْكَهْفِ وَآخِرَهَا، كَانَتْ لَهُ نُورًا مِنْ قَدَمِهِ إِلَى رَأْسِهِ، وَمَنْ قَرَأَهَا كُلَّهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا مَا بَيْنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ "(١٠) انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ(١١)(١٢)وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُويْه [فِي تَفْسِيرِهِ](١٣) بِإِسْنَادٍ لَهُ غَرِيبٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، سَطَعَ لَهُ نُورٌ مِنْ تَحْتِ قَدَمِهِ إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ، يُضِيءُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وغُفر لَهُ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ "(١٤) .وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي رَفْعِهِ نَظَرٌ، وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ الْوَقْفُ.وَهَكَذَا رَوَى(١٥) الْإِمَامُ: " سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ " فِي سُنَنِهِ، عَنْ هُشَيْم بْنِ بشيرٍ(١٦) ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ(١٧) ، عَنْ أَبِي مِجْلَز، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ(١٨) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ.هَكَذَا وَقَعَ مَوْقُوفًا، وَكَذَا(١٩) رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ(٢٠) ، بِهِ(٢١) . مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُؤَمَّلِ، حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ(٢٢) بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّعراني، حَدَّثَنَا نُعَيم بْنُ حمَّاد، حَدَّثَنَا هُشَيْم، حَدَّثَنَا أَبُو هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي(٢٣) مِجْلَز، عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَاد، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ "، ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.وَهَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ الْحَاكِمِ(٢٤) ، ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: " مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ كما أنزلت كانت لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".(٢٥) [وَاللَّهُ أَعْلَمُ](٢٦) .وَفِي " الْمُخْتَارَةِ " لِلْحَافِظِ الضِّيَاءِ الْمُقَدِّسِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ(٢٧) مُصْعَبِ بْنِ مَنْظُورِ بْنِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ مَرْفُوعًا: " مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَهُوَ مَعْصُومٌ إِلَى ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ، وَإِنْ خَرَجَ الدَّجَّالُ عُصِمَ مِنْهُ "(٢٨) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[رَبِّ وَفِّقْنِي](٢٩)
* * *قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ أَنَّهُ تَعَالَى يَحْمَدُ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ عِنْدَ(٣٠) فَوَاتِحَ الْأُمُورِ وَخَوَاتِيمِهَا، فَإِنَّهُ الْمَحْمُودُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ؛ وَلِهَذَا حَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى إِنْزَالِهِ كِتَابَهُ الْعَزِيزَ عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ نِعْمَةً(٣١) أَنْعَمَهَا اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ؛ إِذْ أَخْرَجَهُمْ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، حَيْثُ جَعَلَهُ كِتَابًا مُسْتَقِيمًا لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا زَيْغَ، بَلْ يَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، بَيِّنًا وَاضِحًا جَلِيًّا(٣٢) نَذِيرًا لِلْكَافِرِينَ وَبَشِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا﴾ أَيْ: لَمْ يَجْعَلْ فِيهِ اعْوِجَاجًا وَلَا زَيْغًا وَلَا مَيْلًا بَلْ جَعَلَهُ مُعْتَدِلًا مُسْتَقِيمًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿قَيِّمًا﴾ أَيْ: مُسْتَقِيمًا.﴿لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ﴾ أَيْ: لِمَنْ خَالَفَهُ وَكَذَّبَهُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ، يُنْذِرُهُ بَأْسًا شَدِيدًا، عُقُوبَةً عَاجِلَةً فِي الدُّنْيَا وَآجِلَةً فِي الْآخِرَةِ ﴿مِنْ لَدُنْهُ﴾ أَيْ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الَّذِي لَا يُعَذّب عَذَابَهُ أَحَدٌ، وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ.﴿وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أَيْ: بِهَذَا الْقُرْآنِ الَّذِينَ صَدَّقُوا إِيمَانَهُمْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ ﴿أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا﴾ أَيْ: مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ جَمِيلَةً﴿مَاكِثِينَ فِيهِ﴾ فِي ثَوَابِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَهُوَ الْجَنَّةُ، خَالِدِينَ فِيهِ ﴿أَبَدًا﴾ دَائِمًا لَا زَوَالَ لَهُ وَلَا انْقِضَاءَ.﴿وَيُنْذِرَ الَّذِينَ (٤) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِمْ: نَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ.﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾ أَيْ: بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي افْتَرَوْهُ وَائْتَفَكُوهُ مِنْ عِلْمٍ ﴿وَلا لآبَائِهِمْ﴾ أَيْ: أَسْلَافِهِمْ.﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً﴾ : نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، تَقْدِيرُهُ: كَبُرَتْ كَلِمَتُهُمْ هَذِهِ كَلِمَةً.وَقِيلَ: عَلَى التَّعَجُّبِ، تَقْدِيرُهُ: أَعْظِمْ بِكَلِمَتِهِمْ كَلِمَةً، كَمَا تَقُولُ: أَكْرِمْ بِزَيْدٍ رَجُلًا قَالَهُ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ مَكَّةَ: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً﴾ كَمَا يُقَالُ: عَظُم قولُك، وَكَبُرَ(٣٣) شأنُك.وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ أَظْهَرُ؛ فَإِنَّ هَذَا تَبْشِيعٌ لِمَقَالَتِهِمْ(٣٤) وَاسْتِعْظَامٌ لِإِفْكِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ أَيْ: لَيْسَ لَهَا مُسْتَنَدٌ سِوَى قَوْلِهِمْ، وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَيْهَا إِلَّا كَذِبُهُمْ وَافْتِرَاؤُهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا﴾ .وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ قَدِمَ عَلَيْنَا مُنْذُ بِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَتْ قُرَيْشٌ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيط، إِلَى أَحْبَارِ يَهُودَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالُوا لَهُمْ: سَلُوهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَصِفُوا لَهُمْ صِفَتَهُ، وَأَخْبِرُوهُمْ بِقَوْلِهِ؛ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَهُمْ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ. فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ، فَسَأَلُوا أَحْبَارَ يَهُودَ(٣٥) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَوَصَفُوا لَهُمْ(٣٦) أَمْرَهُ وَبَعْضَ قَوْلِهِ، وَقَالَا(٣٧) إِنَّكُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ، وَقَدْ جِئْنَاكُمْ لِتُخْبِرُونَا عَنْ صَاحِبِنَا هَذَا. قَالَ: فَقَالَتْ لَهُمْ: سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثٍ نَأْمُرُكُمْ بِهِنَّ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهِن، فَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالرَّجُلُ مُتَقَول فَرَوا فِيهِ رَأْيَكُمْ: سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ، مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ؟ فَإِنَّهُمْ(٣٨) قَدْ كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ عَجِيبٌ. وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ بَلَغَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، مَا كَانَ نبَؤه(٣٩) ؟ [وَسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، مَا هُوَ؟](٤٠) فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِذَلِكَ فَهُوَ نَبِيٌّ فَاتَّبِعُوهُ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْكُمْ فَإِنَّهُ رَجُلٌ مُتَقَوِّلٌ، فَاصْنَعُوا فِي أَمْرِهِ مَا بَدَا لَكُمْ.فَأَقْبَلَ النَّضْرُ وَعُقْبَةُ حَتَّى قَدِمَا عَلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَا يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، قَدْ جِئْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، قَدْ أَمَرَنَا أَحْبَارُ يَهُودَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ أُمُورٍ، فَأَخْبَرُوهُمْ بِهَا، فَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنَا: فَسَأَلُوهُ عَمَّا أَمَرُوهُمْ بِهِ، فَقَالَ(٤١) لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أُخْبِرُكُمْ غَدًا بِمَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ". وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، وَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، لَا يُحدث اللَّهُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَحْيًا، وَلَا يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَتَّى أَرْجَفَ(٤٢) أَهْلُ مَكَّةَ وَقَالُوا: وَعَدَنَا مُحَمَّدٌ غَدًا، وَالْيَوْمُ خمسَ عشرةَ قَدْ أَصْبَحْنَا فِيهَا، لَا يُخبرنا بِشَيْءٍ عَمَّا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ. وَحَتَّى أحزنَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مكثُ الْوَحْيِ عَنْهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، بِسُورَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فِيهَا مُعَاتَبَتُهُ إِيَّاهُ عَلَى حُزْنِهِ عَلَيْهِمْ، وخَبَر مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الْفِتْيَةِ(٤٣) وَالرَّجُلِ الطَّوَّافِ، وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا﴾ [الْإِسْرَاءِ:٨٥](٤٤)

(١) زيادة من ت
(٢) المسند (٤/٢٨١) وصحيح البخاري برقم (٣٦١٤) وصحيح مسلم برقم (٧٩٥) .
(٣) في أول تفسير سورة البقرة، في فضلها.
(٤) في ف: "الترمذي والنسائي".
(٥) المسند (٥/١٩٦) وصحيح مسلم برقم (٨٠٩) وسنن أبي داود برقم (٤٣٢٣) وسنن النسائي الكبري برقم (٨٠٢٥) وسنن الترمذي برقم (٢٨٨٦) .
(٦) زيادة من ف.
(٧) المسند (٦/٤٤٦) وصحيح مسلم برقم (٨٠٩) وسنن النسائي الكبري برقم (١٠٧٨٦) .
(٨) سنن النسائي الكبرى برقم (١٠٧٨٤) .
(٩) في ت: "زياد بن واقد"، وفي ف: "ثوبان بن فايد".
(١٠) في ف: "السماء والأرض".
(١١) في ت: "يخرجه".
(١٢) المسند (٤/٤٣٩) .
(١٣) زيادة من ف.
(١٤) ذكره المنذرى في الترغيب (١/٥١٣) وقال: "رواه ابن مرديه بإسناد لا بأس به".
(١٥) في ت: "رواه".
(١٦) في ت: "بشر".
(١٧) في ت، أ: "هشام".
(١٨) في ف: "عبادة".
(١٩) في ت: "وهكذا".
(٢٠) في ت: "هشام".
(٢١) وروراه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص١٣١) قال: حدثنا هشيم به موقوفا. وسيأتي الاختلاف على هشيم. أما رواية الثوري: فرواها النسائي في السنن الكبرى برقم (١٠٧٩٠) من طريق عبد الرحمن عن سفيان الثوري به موقوفا.. وقد حقق الفاضل محمد طرهوني في كتابه "موسوعة فضائل القرآن" (١/٣٣٧) روايتي الرفع والوقف فأجاد وأفاد، جزاه الله خيرا، ثم رجح أنه موقوف في حكم المرفوع.
(٢٢) في ت: "الفضل".
(٢٣) في ت: "أبو".
(٢٤) المستدرك (٢/٣٦٨) والسنن الكبرى للبيهقي (٣/٢٤٩) .
(٢٥) رواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٤٢٨) "مجمع البحرين" واختلف فيه على شعبة، فرواه غندر عن شعبة موقوفا.
(٢٦) زيادة من أ.
(٢٧) في أ: "عن".
(٢٨) المختارة برقم (٤٣٠) وقال: "عبد الله بن مصعب لم يذكره البخاري، ولا ابن أبي حاتم في كتابيهما".
(٢٩) زيادة من ت.
(٣٠) في ت: "عن".
(٣١) في ف" "نعم".
(٣٢) في ت: "جليل".
(٣٣) في ت: "وعظم".
(٣٤) في ت: "لمقالهم".
(٣٥) في ت: "يهودي".
(٣٦) في أ: "له".
(٣٧) في ت: "وقال".
(٣٨) في أ: "فإنه".
(٣٩) في ت، أ: "بناؤه".
(٤٠) زيادة من الطبري.
(٤١) في ت: فقالوا".
(٤٢) في ت: "أوجب".
(٤٣) في ت: "الفقيه".
(٤٤) رواه الطبري في تفسيره (١٥/١٢٧) .

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الأربعاء، 5 أبريل 2023

من سورة النازعات

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٢٧_٣٣ 
من سورة النازعات 
﴿ءَأَنتُمۡ أَشَدُّ خَلۡقًا أَمِ ٱلسَّمَاۤءُۚ بَنَىٰهَا (٢٧) رَفَعَ سَمۡكَهَا فَسَوَّىٰهَا (٢٨) وَأَغۡطَشَ لَیۡلَهَا وَأَخۡرَجَ ضُحَىٰهَا (٢٩) وَٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ ذَ ٰ⁠لِكَ دَحَىٰهَاۤ (٣٠) أَخۡرَجَ مِنۡهَا مَاۤءَهَا وَمَرۡعَىٰهَا (٣١) وَٱلۡجِبَالَ أَرۡسَىٰهَا (٣٢) مَتَـٰعࣰا لَّكُمۡ وَلِأَنۡعَـٰمِكُمۡ (٣٣)﴾ [النازعات ٢٧-٣٣]

يَقُولُ تَعَالَى مُحْتَجًّا عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ فِي إِعَادَةِ الْخَلْقِ بَعْدَ بَدْئِهِ: ﴿أَأَنْتُمْ﴾ أَيُّهَا النَّاسُ ﴿أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ﴾ ؟ يَعْنِي: بَلِ السماءُ أَشَدُّ خَلْقًا مِنْكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ [غَافِرٍ: ٥٧] ، وَقَالَ: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ(١) ﴾ [يس: ٨١] ، فَقَوْلُهُ: ﴿بَنَاهَا﴾ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا﴾ أَيْ: جَعَلَهَا عَالِيَةَ الْبِنَاءِ، بَعِيدَةَ الْفَنَاءِ، مُسْتَوِيَةَ الْأَرْجَاءِ، مُكَلَّلَةً بِالْكَوَاكِبِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾ أَيْ: جَعَلَ لَيْلَهَا مُظْلِمًا أَسْوَدَ حَالِكًا، وَنَهَارَهَا مُضِيئًا مُشْرِقًا نَيِّرًا وَاضِحًا.قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَغْطَشَ لَيْلَهَا: أَظْلَمَهُ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَجَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ.﴿وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾ أَيْ: أَنَارَ نَهَارَهَا.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا﴾ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ "حم السَّجْدَةِ"(٢) أَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا دُحيت بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَخْرَجَ مَا كَانَ فِيهَا بِالْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ-يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو-عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنِ المِنْهال بْنِ عَمْرو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿دَحَاهَا﴾ وَدَحْيها أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى، وَشَقَّقَ [فِيهَا](٣) الْأَنْهَارَ، وَجَعَلَ فِيهَا الْجِبَالَ وَالرِّمَالَ وَالسُّبُلَ وَالْآكَامَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرَ ذَلِكَ هُنَالِكَ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا﴾ أَيْ: قَرَّرَهَا وَأَثْبَتَهَا وأكَّدها فِي أَمَاكِنِهَا، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ، الرَّءُوفُ بِخَلْقِهِ الرَّحِيمُ.وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوشب، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمِيد، فَخَلَقَ الْجِبَالَ فَأَلْقَاهَا عَلَيْهَا، فَاسْتَقَرَّتْ فَتَعَجَّبَتِ الملائكةُ مِنْ خَلْقِ الْجِبَالِ فَقَالَتْ: يَا رب، فهل من خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْجِبَالِ؟ قَالَ نَعَمْ، الْحَدِيدُ. قَالَتْ: يَا رَبِّ، فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْحَدِيدِ؟ قَالَ: نَعَمْ، النَّارُ. قَالَتْ: يَا رَبِّ، فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: نَعَمْ، الْمَاءُ. قَالَتْ: يَا رَبِّ، فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْمَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ، الرِّيحُ. قَالَتْ: يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الرِّيحِ؟ قَالَ: نَعَمْ، ابْنُ آدَمَ، يَتَصَدَّقُ بِيَمِينِهِ يُخْفِيهَا مِنْ(٤) شَمَالِهِ"(٥) .وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ قَمَصَتْ وَقَالَتْ: تَخْلُقُ عَلَيّ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ، يُلْقُونَ عَلَيَّ نَتَنَهُمْ وَيَعْمَلُونَ عَلَيّ بِالْخَطَايَا، فَأَرْسَاهَا اللَّهُ بِالْجِبَالِ، فَمِنْهَا مَا تَرَوْنَ، وَمِنْهَا مَا لَا تَرَوْنَ، وَكَانَ أَوَّلُ قَرَار الْأَرْضِ كَلَحْمِ الْجَزُورِ إِذَا نحِر، يَخْتَلِجُ لَحْمُهُ. غَرِيبٌ(٦) .
* * *وَقَوْلُهُ ﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ﴾ أَيْ: دَحَا الْأَرْضَ فَأَنْبَعَ عُيُونَهَا، وَأَظْهَرَ مَكْنُونَهَا، وَأَجْرَى أَنْهَارَهَا، وَأَنْبَتَ زُرُوعَهَا وَأَشْجَارَهَا وَثِمَارَهَا، وَثَبَّتَ جِبَالَهَا، لِتَسْتَقِرَّ بِأَهْلِهَا وَيَقَرُّ قَرَارُهَا، كُلُّ ذَلِكَ مَتَاعًا لِخَلْقِهِ وَلِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَنْعَامِ الَّتِي يَأْكُلُونَهَا وَيَرْكَبُونَهَا مُدَّةَ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهَا فِي هَذِهِ الدَّارِ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمَدُ، وَيَنْقَضِيَ الْأَجَلُ.

(١) في م، أ: "بلى إنه على كل شيء قدير" وهو خطأ.
(٢) عند تفسير الآية: ٩.
(٣) زيادة من أ.
(٤) في أ: "عن".
(٥) المسند (٣/١٢٤) ، ورواه الترمذي في السنن برقم (٣٣٦٩) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هارون به، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ".
(٦) تفسير الطبري (٣٠/٣٠) .

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الأحد، 2 أبريل 2023

من سورة النبأ

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٧_٣٠
من سورة النبأ 
﴿إِنَّ یَوۡمَ ٱلۡفَصۡلِ كَانَ مِیقَـٰتࣰا (١٧) یَوۡمَ یُنفَخُ فِی ٱلصُّورِ فَتَأۡتُونَ أَفۡوَاجࣰا (١٨) وَفُتِحَتِ ٱلسَّمَاۤءُ فَكَانَتۡ أَبۡوَ ٰ⁠بࣰا (١٩) وَسُیِّرَتِ ٱلۡجِبَالُ فَكَانَتۡ سَرَابًا (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتۡ مِرۡصَادࣰا (٢١) لِّلطَّـٰغِینَ مَـَٔابࣰا (٢٢) لَّـٰبِثِینَ فِیهَاۤ أَحۡقَابࣰا (٢٣) لَّا یَذُوقُونَ فِیهَا بَرۡدࣰا وَلَا شَرَابًا (٢٤) إِلَّا حَمِیمࣰا وَغَسَّاقࣰا (٢٥) جَزَاۤءࣰ وِفَاقًا (٢٦) إِنَّهُمۡ كَانُوا۟ لَا یَرۡجُونَ حِسَابࣰا (٢٧) وَكَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا كِذَّابࣰا (٢٨) وَكُلَّ شَیۡءٍ أَحۡصَیۡنَـٰهُ كِتَـٰبࣰا (٢٩) فَذُوقُوا۟ فَلَن نَّزِیدَكُمۡ إِلَّا عَذَابًا (٣٠)﴾ [النبأ ١٧-٣٠]

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يَوْمِ الْفَصْلِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَنَّهُ مُؤَقَّتٌ بِأَجَلٍ مَعْدُودٍ، لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ، وَلَا يَعْلَمُ وَقْتَهُ عَلَى التَّعْيِينِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا قَالَ: ﴿وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ﴾ [هُودِ:١٠٤] .﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: زُمَرًا(١) . قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي تَأْتِي كُلُّ أُمَّةٍ مَعَ رَسُولِهَا، كَقَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ [الْإِسْرَاءِ:٣١](٢) .وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "ما بين النفختين أربعون".قَالُوا: أَرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قَالَ: "أبيتُ". قَالُوا: أَرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قَالَ: "أَبَيْتُ". قَالُوا: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: "أَبَيْتُ". قَالَ: "ثُمَّ يُنزلُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فينبتُونَ كَمَا ينبتُ البقلُ، لَيْسَ مِنَ الْإِنْسَانِ شيءٌ إِلَّا يَبلَى، إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا، وَهُوَ عَجْبُ الذنَب، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الخَلْقُ يومَ الْقِيَامَةِ"(٣) .﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾ أَيْ: طُرُقًا وَمَسَالِكَ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا﴾ كَقَوْلِهِ: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾ [النَّمْلِ:٨٨] وَكَقَوْلِهِ: ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ﴾ [الْقَارِعَةِ:٥] .وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿فَكَانَتْ سَرَابًا﴾ أَيْ: يُخَيَّلُ إِلَى النَّاظِرِ أَنَّهَا شَيْءٌ، وَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ، بَعْدَ هَذَا تَذهب بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا عَيْنَ وَلَا أَثَرَ، كَمَا قَالَ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا﴾ [طه:١٠٥ -١٠٧] وقال: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً﴾ [الْكَهْفِ:٤٧] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا﴾ أَيْ: مُرْصَدَةً مُعَدّة، ﴿للِطَّاغِينَ﴾ وَهُمُ: المَرَدة الْعُصَاةُ الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ، ﴿مَآبًا﴾ أَيْ: مَرْجِعًا وَمُنْقَلَبًا وَمَصِيرًا وَنُزُلًا. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا﴾ يَعْنِي: أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ حَتَّى يَجْتَازَ بِالنَّارِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ جَوَازٌ نَجَا، وَإِلَّا احْتَبَسَ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: عَلَيْهَا ثَلَاثُ قَنَاطِرَ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾ أَيْ: مَاكِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا، وَهِيَ جَمْعُ "حقُب"، وَهُوَ: الْمُدَّةُ مِنَ الزَّمَانِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ. فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ مِهْران، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَمَّار الدّهنِي، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لِهِلَالٍ الهَجَري: مَا تجدونَ الحُقْبَ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ؟ قَالَ: نَجِدُهُ ثَمَانِينَ سَنَةً، كُلُّ سَنَةٍ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، كُلُّ شَهْرٍ ثَلَاثُونَ يَوْمًا كُلُّ يَوْمٍ أَلْفَ سَنَةٍ(٤) .وَهَكَذَا رُويَ عَنْ أَبِي هُرَيرة، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمرو، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَير، وعَمرو بْنِ مَيْمُونٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَالضَّحَّاكِ. وَعَنِ الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ أَيْضًا: سَبْعُونَ سَنَةً كَذَلِكَ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: الحُقبُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.وَقَالَ بُشَير(٥) بْنُ كَعْبٍ: ذُكِر لِي أَنَّ الحُقب الْوَاحِدَ ثَلَاثُمِائَةُ سَنَةٍ، كُلُّ سَنَةٍ ثَلَاثُمِائَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا(٦) ، كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا كَأَلْفِ سَنَةٍ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ(٧) ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكِرَ عَنْ عُمَر بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الأسْفَذْنيّ(٨) : حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الفَزَاري، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي قوله: ﴿لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾قَالَ: فَالْحُقْبُ [أَلْفُ](٩) شَهْرٍ، الشَّهْرُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَالسَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، وَالسَّنَةُ ثَلَاثُمِائَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا، كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا أَلْفُ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، فَالْحُقْبُ ثَلَاثُونَ أَلْفَ أَلْفِ سَنَةٍ(١٠) . وَهَذَا حديثٌ مُنْكَرٌ جِدًّا، وَالْقَاسِمُ هُوَ وَالرَّاوِي عَنْهُ وَهُوَ جَعْفَرُ بْنُ الزُّبَيْرِ كِلَاهُمَا مَتْرُوكٌ.وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِرْدَاس، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مُسْلِمٍ أَبُو المُعَلَّى قَالَ: سَأَلْتُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيَّ: هَلْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ أَحَدٌ؟ فَقَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "وَاللَّهِ لَا يُخْرُجُ مِنَ النَّارِ أَحَدٌ حَتَّى يَمْكُثَ فِيهَا أَحْقَابًا". قَالَ: والحُقْب: بِضْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَالسَّنَةُ ثَلَاثُمِائَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا مِمَّا تَعُدُّونَ(١١) .ثُمَّ قَالَ: سُلَيْمَانُ بْنُ مُسْلِمٍ بَصْرِيٌّ مَشْهُورٌ.وَقَالَ السُّدِّيُّ: ﴿لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾ سَبْعُمِائَةُ حُقب، كُلُّ حُقْبٍ سَبْعُونَ سَنَةً، كُلُّ سَنَةٍ ثَلَاثُمِائَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا، كُلُّ يَوْمٍ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ.وَقَدْ قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيّان: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا﴾وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدان: هَذِهِ الْآيَةُ وَقَوْلُهُ: ﴿إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾ [هُودٍ:١٠٧] فِي أَهْلِ التَّوْحِيدِ. رَوَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ.ثُمَّ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا﴾ ثُمَّ يُحْدِثُ اللَّهُ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ عَذَابًا مِنْ شَكْلٍ آخَرَ وَنَوْعٍ آخَرَ. ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا انْقِضَاءَ لَهَا، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَقَدْ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ.حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ البَرْقِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بن أبي سلمة، عن زُهَيْرٍ، عَنْ سَالِمٍ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَسْأَلُ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾ قَالَ: أَمَّا الْأَحْقَابُ فَلَيْسَ لَهَا عِدّة إِلَّا الْخُلُودَ فِي النَّارِ، وَلَكِنْ ذَكَرُوا أَنَّ الحُقبَ سَبْعُونَ سَنَةً، كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ.وَقَالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾ وَهُوَ: مَا لَا انْقِطَاعَ لَهُ، كُلَّمَا مَضَى حُقب جَاءَ حُقْبٌ بَعْدَهُ، وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ الحُقْب ثَمَانُونَ سَنَةً.وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: ﴿لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾ لَا يَعْلَمُ عِدَّةَ هَذِهِ الْأَحْقَابِ إِلَّا اللَّهُ، وَلَكِنَّ الحُقْب الْوَاحِدَ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَالسَّنَةُ ثَلَاثُمِائَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا، كُلُّ يَوْمٍ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. رَوَاهُمَا أيضا ابن جرير(١٢) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا﴾ أَيْ: لَا يَجِدُونَ فِي جَهنَّم بَرْدًا لِقُلُوبِهِمْ، وَلَا شَرَابًا طَيِّبًا يَتَغَذَّوْنَ بِهِ. وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا﴾ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: اسْتَثْنَى مِنَ الْبَرْدِ الْحَمِيمَ وَمِنَ الشَّرَابِ الْغَسَاقَ. وَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. فَأَمَّا الْحَمِيمُ: فَهُوَ الْحَارُّ الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ وحُموه. والغَسَّاق: هُوَ مَا اجْتَمَعَ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ وَعَرَقِهِمْ وَدُمُوعِهِمْ وَجُرُوحِهِمْ، فَهُوَ بَارِدٌ لَا يُسْتَطَاعُ مِنْ بَرْدِهِ، وَلَا يُوَاجَهُ مَنْ نَتَنِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْغَسَّاقِ فِي سُورَةِ "ص"(١٣) بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا﴾ يَعْنِي: النَّوْمَ، كَمَا قَالَ الْكِنْدِيُّ:بَرَدت مَرَاشفها عَلَيّ فَصَدَّنِي ... عَنْهَا وَعَنْ قُبُلاتها، البَرْدُ ...يَعْنِي بِالْبَرْدِ: النُّعَاسُ وَالنَّوْمُ(١٤) هَكَذَا ذَكَرَهُ وَلَمْ يَعزُه إِلَى أَحَدٍ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ الطَّيِّبِ. وَنَقَلَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا. وَحَكَاهُ الْبَغَوِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيدة، وَالْكِسَائِيُّ أَيْضًا.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ أَيْ: هَذَا الَّذِي صَارُوا إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ وَفق أَعْمَالِهِمُ الْفَاسِدَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَهَا فِي الدُّنْيَا. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.ثُمَّ قَالَ: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا﴾ أَيْ: لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ثَمَّ دَارًا يُجَازَوْنَ فِيهَا وَيُحَاسَبُونَ، ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا﴾ أَيْ: وَكَانُوا يُكَذِّبُونَ بِحُجَجِ اللَّهِ وَدَلَائِلِهِ عَلَى خَلْقِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ، فَيُقَابِلُونَهَا بِالتَّكْذِيبِ وَالْمُعَانَدَةِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿كِذَّابًا﴾ أَيْ: تَكْذِيبًا، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ غَيْرِ الْفِعْلِ. قَالُوا: وَقَدْ سُمع أَعْرَابِيٌّ يَسْتَفْتِي الفَرّاءَ عَلَى الْمَرْوَةِ: الحلقُ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَوِ القِصار؟ وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ(١٥) :لَقَد طالَ مَا ثَبَّطتنِي عَن صَحَابَتِي ... وَعَنْ حِوَجٍ قَضَاؤُهَا مِن شفَائيا ...
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا﴾ أَيْ: وَقَدْ عَلِمنا أعمالَ العباد كلهم، وكتبناهم عَلَيْهِمْ، وَسَنَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا﴾ أَيْ: يُقَالُ لِأَهْلِ النَّارِ: ذُوقُوا مَا أَنْتُمْ فِيهِ، فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا مِنْ جنسهِ، ﴿وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ﴾ [ص:٥٨] .قَالَ قَتَادَةُ: عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَزْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: لَمْ يَنْزِلْ عَلَى أَهْلِ النَّارِ آيَةٌ أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ: ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا﴾ قَالَ: فَهُمْ فِي مَزِيدٍ مِنَ الْعَذَابِ أَبَدًا.وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مصعب الصوري، حدثنا خالد بن عبد الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا جَسر(١٦) بْنُ فَرقد، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيَّ عَنْ أَشَدِّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ النَّارِ. قَالَ: سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَرَأَ: ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا﴾ فَقَالَ: "هَلَكَ الْقَوْمُ بِمَعَاصِيهِمُ اللَّهَ عَزّ وَجَلَّ"(١٧) .جسرُ(١٨) بن فَرقد: ضعيف الحديث بالكلية.

(١) في م: "زمرا زمرا".
(٢) تفسير الطبري (٣٠/٦٠) .
(٣) صحيح البخاري برقم (٤٩٣٥) .
(٤) تفسير الطبري (٣٠/٨) .
(٥) في أ: "وقال بشر".
(٦) في م: "كل سنة اثنا عشر شهرا، كل سنة ثلاثمائة وستون يوما".
(٧) تفسير الطبري (٣٠/٨) .
(٨) في أ: "الأسعدي".
(٩) زيادة من إتحاف للبوصيري.
(١٠) ورواه ابن أبي عم العدني في مسنده كما في إتحاف المهرة للبوصيري (ق ٢١٨ سليمانية) عن مروان، عن جعفر بن الزبير بنحوه، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (٨/٢٩٢) من طريق يعقوب بن كعب، عن مروان، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مرفوعا: "الحقب الواحد: ثلاثون ألف سنة".
(١١) مسند البزار برقم (٢٢٤٩) "كشف الأستار" ورواه الديلمي في مسند الفردوس برقم (٧٠٢٩) من طريق زياد بن أبي زيد، عن سليمان بن مسلم به نحوه، وقال الهيثمي في المجمع (١٠/٣٩٥) : "فيه سليمان بن مسلم الخشاب، وهو ضعيف جدًا".
(١٢) تفسير الطبري (٣٠/٩) .
(١٣) انظر تفسير الآية: ٥٧ من سورة "ص".
(١٤) تفسير الطبري (٣٠/٩) .
(١٥) البيت في تفسير الطبري (٣٠/١١) .
(١٦) في أ: "حدثنا".
(١٧) ورواه البيهقي في البعث برقم (٦٣٥) من طريق محمد بن غالب، عن مسلم بن إبراهيم، عن جسر بن فرقد به، فذكره موقوفا، ورواه ابن مردويه في تفسيره كما في تخريج الكشاف للزيلعي (٤/١٤٥) من طريق جعفر بن جسر بن فرقد، عن أبيه، عن الحسن به، ورواه الثعلبي في تفسيره كما في تخريج الكشاف للزيلعي (٤/١٤٥) من طريق مهدى بن ميمون، عن الحسن بن دينار، عن الحسن، عن أبي برزة مرفوعًا بنحوه.
(١٨) في أ: "حسن".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))